القريب: لجزء الأول
أتشعر بالوحشة؟ هل خذلك صديقك؟ هل تحس أن بينك وبين أعز الناس حجاباً مستوراً، فلم يعد يفهمك كما كان؟ هل روحك تأن شوقاً إلى حبيب تبث إليه لواعجها؟
لماذا لا تنصرف إلى الذي لا يجفو من أتاه متقرباً؟
الله الذي هو أقرب إليك من حبل الوريد، والذي ستغدو حياتك أنساً وسعادة معه، له اسم عظيم، موغل في الجمال، مكلل بالبهاء.
في الوقت الذي يريدك أن تعلم أنه على العرش استوى، يريدك أن تتيقن أنه أقرب إليك من حبل الوريد!
تضيع دابّة أحدهم فيمشي مبهوتاً فيراه إبراهيم بن أدهم فيسأله فيقول: ضاعت دابتي، فيقف إبراهيم ويقول: يا الله، لن أمشي خطوة حتى تعيد لهذا دابته، فإذا بها تظهر من منحنى الطريق!
يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، ويذهب ليطرق بابَ أٌبي بن كعب، فيخرج أٌبي، فإذا برسول الله يخبره: أمرني الله أن أقرأ عليك الفاتحة، يقول أٌبي بذهول: وسمّاني؟ فيقول نعم، فيبكي أٌبي!
لا تتوهم أنه بعيد، أو أنه تخفى عليه منك خافية، فأقرب ما تكون إليه وأنت ساجد، تتمتم بـ (سبحان ربي الأعلى)، فإذا بالسماوات تتفتح لتمتمتك، وإذا بالجبار يسمعك!
وقربه سبحانه وتعالى قرب علم وقرب سمع وقرب بصر وقرب إحاطة، لا قرب ذات، لأن ذاته العلية منزهة عن مثل هذا القرب.
ينزل سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول:
هل من سائلٍ فأُعطيَه هل من داعي فأستجيبَ له هل من تائبٍ فأتوبَ عليه هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له
تأتي امرأة تجادل في زوجها، وعائشة رضي الله عنها في طرف البيت تقول إنها تسمع كلمة وتغيب عنها كلمة، وبعد ذلك الجدل ينزل جبريل على محمد ﷺ أن:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
يا له من قرب عجيب، وعلم عظيم، وسمع محيط، وبصر نافذ..
استمع إليه وهو يهدئ من روع موسى عليه السلام عندما أعلن خوفه من الذهاب إلى فرعون فقال له:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ
هذا يكفي.. لأنه معهما يجب ألا يخافا من فرعون، يجب أن يكونا شجاعين بطلين شامخين.
ولله معيّتين: الأولى خاصة بأهل ولايته، وهي معيّة محبة ونصرة وتوفيق، ومعية عامة لجميع خلقه وهي معيّة علم وسمع وبصر وإحاطة.
إذا صفعتك المخاوف فابتسم، وتذكر قربه منك سبحانه.. فكل الأشياء التي تخاف منها، ليست أقرب إليك منه!
وإذا التأمت حولك الخطوب فتفائل! وشتتها بفكرة أنه أقرب إليك من حبل الوريد!
إنه القريب.. فقط حرّك شفتيك بذكره، تتفتح أبواب السماوات لصوتك.
كان يونس عليه السلام في بطن الحوت ينادي:
لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
فكان الصوت الضعيف المنطلق من الظلمات الثلاث يخترق أجواز الفضاء لتسمعه ملائكة السماوات فتقول للرب سبحانه:
صوتٌ معروف، من مكانٍ غير معروف!
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:
من ذكرَني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسي ، ومن ذكرَني في ملإٍ ذكرتُهُ في ملإٍ خيرٍ منه
لأنه قريب، فقط قل يا الله، يكون الرد بأن يذكر اسمك!
ما أجل أن تتخيل أن ملك الملوك في هذه اللحظة يقول اسمك! يقول: عبدي فلان بن فلان يذكرني!
الدنيا كلها تافهة، لا تساوي مثل هذا التخيل..
قريب لا تحتاج حتى تصل إليه إلا أن يخطر ببالك، أن تشعر بقربه، أن تحس بأنه يراك، ثم تقول: يا الله..
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أي شخص يسألك عن الله فأول شيء تصف به ربك هو أنه قريب منه! النفوس مفطورة على عدم استعدادها لعبادة رب بعيد، لا يسمع دعائها، ولا يرى حاجاتها، فمن أهم الصفات التي تبتدر بها الذي يريد التعرف إلى الله أن تخبره أن ربه "قريب"، هكذا علمك سبحانه أن تخبر عنه!
وهذا القرب علاوة على أنه يجعلك تحبه، وتأنس به وتخشاه، إلا أنه فوق ذلك يجعلك تدمن على استغفاره والتوبة إليه، فالقريب من جهة يستحق أن يُستغفر ويتاب إليه، لأنه بقربه اطلع على كل غدراتك وفجراتك، ومن جهة أخرى فهو قريب قرباً يجعل استغفارك وتوبتك ناجعة، فلن يغفر لك إلا من سمع استغفارك ولن يتوب عليك إلا من علم توبتك، فهو القريب المجيب.